كان يوم 09 ماي 2011 موعد أول اجتماع رسمي للهيئة العليا المستقلة للإنتخابات، أما يوم 23 أكتوبر 2011 فكان تاريخ أول انتخابات حرة ونزيهة وشفافة في تاريخ تونس.
زمن طويل يفصلنا عن تلك المرحلة الناجحة التي تولى تقريبا إدارتها المجتمع المدني الناتج عن الثورة، ولكنه شهد عدة جرائم في حق الوطن ارتكبتها الطبقة السياسية الحاكمة حاليا وخاصة تلك التي حكمت زمن الترويكا السابقة بقيادة حزب حركة النهضة.
جرائم لا تنسى في حق هيئة الانتخابات
أبرز تلك الجرائم على الإطلاق من الناحية المؤسساتية جريمة استهداف الهيئة العليا المستقلة للانتخابات التي أحدثت بمرسوم 27 أفريل 2011 وتم انتخاب أعضائها من قبل هيئة تحقيق أهداف الثورة يوم 09 ماي 2011 والتي تم التكتل للقضاء عليها تماما وخلق هيئة بديلة مطيعة غير مستقلة نهائيا من قبل الجميع بدون استثناء.
مسّت تلك الجريمة مصداقية هيئة الانتخابات وأضعفتها ونزعت عنها تميزها وحرفيتها وأسقطتها وسط الحلبة، بعد أن كانت فوقها وجعلت منها ألعوبة بين أيادي نائبين من حزب الحركة ومحلّ امتعاض وحتى تندّر من أغلب الأحزاب السياسية والمجتمع المدني.
عديدة هي الأحداث التي تبين مدى خطورة تداعيات تلك الجريمة التي ارتكبت في إطار ”التمكين“ واختراق جميع مفاصل الدولة. وسوف أتطرق لأبرزها في سياق توضيح مواطن الضعف الحالية التي تجعل من هيئة الانتخابات كائنا مشلولا خاضعا لرغبات الأقوياء والتي لا يمكن تداركها بغير إستخلاص العبر واتخاذ اجراءات جراجية عاجلة. ومن بين أهم أسباب مواطن الضعف تلك:
نزع سلطة الهيئة في تحديد موعد الانتخابات
لا تملك هيئة الإنتخابات اليوم قرارها، بل تخضع بدون مواربة لقرار مجلس شورى حركة النهضة في تحديد مواعيد الإنتخابات. لذلك لم يتم إجراء أية انتخابات في موعدها وتم التراجع عن جميع المواعيد المعلنة نتيجة الخضوع لأهواء السياسيين وحساباتهم الضيقة إذ تتطلب أية قرارات ولو كانت بسيطة تتخذها الهيئة، فترات طويلة من التردد والتشاور وتضييع الوقت انتظارا للقرارات الفوقية.
والحال أنه وفي انتخابات المجلس الوطني التأسيسي وبعد مجهودات مضنية وتضحيات لا يمكن وصفها كانت أربعة أشهر ونصف تقريبا كافية للهيئة لكي تسجل الناخبين ونجري الانتخابات في الموعد الذي قررته وفرضته على الجميع سلطة وأحزاب بعد أن كان الموعد المقرر 24 جويلية 2011.
الضغط على الهيئة لكي تماطل في تسجيل الناخبين
أعلنت هيئة الإنتخابات في فيفري 2018 وجود 5 ملايين و369 ألفا و843 ناخبا مرسمين بسجل الناخبين ويعني ذلك أن عشرات المليارات من المليمات صرفت منذ ثماني سنوات في ثلاثة انتخابات لكي يتم خلالها تسجيل 713 ألفا و967 ناخبا لا غير.
بقي قرابة 4 ملايين ناخب تونسي في سن الانتخاب أغلبهم من الشباب، غير متمتعين بصفة الناخب ولا يسمح لهم في التسجيل بقائمات الناخبين. وهو ما يمثل قرابة 40 في المائة من الجسم الإنتخابي مقصيّ تماما من ممارسة حقوقه الدستورية. إذ أن 60 في المائة فقط من الجسم الانتخابي تم تسجيله لحد الآن وهو ما يخالف المعايير الدولية المثلى التي تقتضي تسجيل الثلثين على الأقل. فهم يريدون المحافظة على الخارطة الانتخابية بكل السبل وتخضع هيئة الانتخابات لذلك المطلب بدون تردد منذ سنة 2014.
في خلال سنة 2011 قامت الهيئة وكانت مستقلة و في مدة قصيرة لا تتجاوز الشهرين بتسجيل أكثر من 5 ملايين ناخب وبأقل التكاليف، بل وفي 150 يوما لا غير وهي مدة قياسية تمت الانتخابات وكانت مدة كافية للوفاء بجميع التعهدات مع احترام تام للروزنامة المتعهد بها.
سجلت الهيئة في 2011 ما مجموعه 5 ملايين و16 ألفا و420 ناخبا بالداخل والخارج في شهرين تقريبا (4 ملايين و468 ألفا 746 ناخبا تم تسجيلهم إراديا و547 ألفا و674 ناخبا سجلوا آليا وتحولوا للتصويت ودونت الهيئة بياناتهم ويعتبرون تبعا لذلك مسجلين إراديا).
في الدوائر الانتخابية بالداخل تم تسجيل 4 ملايين و655 ألفا و876 ناخبا وهو ما يبين أن الهيئة الحالية تعيش على إرث الهيئة المستقلة الأولى في ما يتعلق بتسجيل الناخبين على الأقل، بعد أن بددت الباقي.
إضعاف الهيئة وتهميش دورها أمام الأحزاب السياسية
تراجعت هيئة صرصار في 2014 عن المطالبة بالبطاقة عدد 3 من المرشحين بعد تهديد من زعيم أحد الأحزاب الميكروسكوبية. وهو قرار كانت اتخذته مضطرة بعد ضغوط كبيرة من المجتمع المدني بعد ارتكاب حركة النهضة جريمة الغاء شرط عدم ارتكاب جرائم مخلفة بالشرف من القانون الانتخابي وكان منصوصا عليه بالمرسوم عدد 35 لسنة 2011 المتعلق بالقانون الانتخابي. وهو قرار سياسي خطير يمكّن من حوكم من أجل الارهاب من الترشح للانتخابات ونيل مقعد نيابي أو صلب مجلس بلدي فيما بعد. ومنذ تشكيلها لم تتخذ الهيئة الحالية أي قرار شجاع وترفض حتى تطبيق القانون رغم وضوح صلاحياتها.
خلال سنة 2011 وفي الحملة الانتخابية لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي أصدرت الهيئة المستقلة الأولى قرارا تاريخيا بمنع الإشهار السياسي. القرار تم رفضه من قبل الاتحاد الوطني الحر وكذلك (وكانت صدمة كبيرة) من قبل الحزب الديمقراطي التقدمي حامل لواء الحقوق والحريات زمن الاستبداد، بدعوى عدم وجود سلطة ترتيبية للهيئة في القانون المحدث لها.
دخلنا عندها معهم مكرهين في معركة قانونية وسياسية وخاصة إعلامية وأجبرناهم على احترام قرار الهيئة بعد أن كشفناهم أمام الرأي العام بشعار بسيط كنت رفعته وقتها “كيف لمن لا يحترم القوانين أن يكتب دستورا”. وخاصة بعد أن خاض صديقي زكي الرحموني إضراب جوع وحشي انضممت له فيه، فتراجعوا وخضعوا للقرار وخسروا جميع دعاويهم القضائية التي رفعوها ضد الهيئة.
افتكّت الهيئة المستقلة سلطة ترتيبية لم تكن واضحة وقتها في القانون بفضل التزام أعضائها وإيمانهم بدورهم الوطني. كان ذلك قبل أن ينقض السماسرة على عالم السياسة وقبل أن يصبح الوطن آخر اهتمامات السياسيين.
صمت الهيئة في قضية عدم اعتماد الورقة البيضاء نهائيا
لم تدافع الهيئة الانتخابية منذ 2014 عن المواطن التونسي ولا عن حقوقه في مجال تدخلها ولم تبد موقفا من مختلف القوانين التي تم المصادقة عليها ولم تلعب دورها القانوني والسياسي ولم تقترح حتى تعديل قانونها واسترجاع صلاحياتها المنتهكة.
اتخذت الهيئة المستقلة الأولى في انتخابات المجلس الوطني التأسيسي سنة 2011 قرارا تاريخيا وثوريا وشجاعا باعتماد الورقة البيضاء قبل مراجعة المحاضر واتخاذ قرار النتائج الأولية.
و كان قرارا ثوريا لم ينص القانون على امكانية اتخاذه، إذ اعتبرت الهيئة المركزية أن من يصوت بورقة بيضاء مواطن تحول إلى مكتب اقتراع ولم يجد ما يرضيه من بين القائمات المترشحة ولكنه لم يشطب ورقته ولم يلغها وعبر بذلك عن اختيار واع وحرّ ومن حقه على الإدارة الانتخابية التي جعلت لتخدمه اعتماد تصويته واعتباره غير ملغى.
عند مراجعة النتائج الأولية وقبيل إعلانها، اكتشفنا حينها أنه ينجر عن قرار اعتماد الورقة البيضاء سقوط قائمة حركة النهضة بمدنين والتي كانت لتفوز لو لم نتخذ ذلك القرار على خلاف بقية الدوائر التي لم تكن لتتغير نتائجها. كانت مفاجأة مذهلة وموقفا صعبا نظرا للتهديدات التي أطلقها شيخ حركة النهضة تجاه الهيئة قبلها بأسابيع ولكننا لم نبال ولم نتراجع رغم دقة الوضع وقابليته للإنفجار وتمسكنا بقرارنا وأعتمدناه وسقطت قائمة الحركة.
طعنت حركة النهضة في قرار اعلان النتائج المتعلق بالدائرة المذكورة لدى المحكمة الإدارية التي أصدرت قرارا فضيحة بتعليل ضعيف ألغى اعتماد الورقة البيضاء لكي تصعد قائمة حركة النهضة بمدنين إلى المجلس التأسيسي.
في 14 نوفمبر 2011 وبعد استكمال الطعون أعلنا عن النتائج النهائية في ندوة صحفية. وكنت غاضبا لدرجة لا توصف من جراء قرار المحكمة الإدارية التي فوتت على تونس فرصة تاريخية في اعتماد الورقة البيضاء. وطلبت من الكاتب العام حينها صديقي بوبكر بالثابت توضيح موقف الهيئة من ذلك القرار واقترحت التمسك واثر انتهاء اعلان النتائج بموقف تاريخي يتعلق باحترام الهيئة المركزية لأحكام القضاء الإداري ولكن فقط فيما يتعلق بدائرة مدنين موضوع الطعن وبأن الهيئة تتمسك باعتماد الورقة البيضاء في بقية الدوائر التي لم تشملها طعون وهو ما وافقني عليه وتمّ.
مواصلة دعم هيئة ضعيفة تخشى من ممارسة صلاحياتها
ورد بالصفحة 7 بالنسخة الفرنسية من تقرير بعثة الملاحظة التي أرسلها الإتحاد الأوروبي لمراقبة انتخابات 06 ماي 2018 البلدية رغم أنه تقرير سطحي ومعدّ سلفا كالعادة، ما يلي: “اختارت هيئة الإنتخابات عدم استعمال سلطتها في إلغاء النتائج وأحالت الخروقات الخطيرة للنيابة العمومية”. وهي ملاحظة خطيرة تمس من مصداقية الهيئة الحالية وتضرب أساس وجودها وتفيد بتخليها تماما عن ممارسة دورها وأعتقد أن على جميع الفاعلين السياسيين استخراج العبر منها.
فهيئة انتخابات ترفض القيام بمهامها تغيّر حتما من نتائج الإنتخابات وتهضم حق قائمات مترشحة أخرى لم تفز أو فازت بنتائج أسوأ مما لو تحلّت الهيئة بالشجاعة والإستقامة وطبقت القانون على الجميع.
نحن أمام هيئة لا تطبق القانون وتغيّر بالتالي من نتائج الإنتخابات التي أصبحت لا تعبّر عن حقيقة الصندوق خاصة ونحن نعلم أن سياسة إلقاء الكرة للآخرين لن تفيد في شيء وأن دور النيابة العمومية غير فاعل في القضايا التي تمس بعض الأحزاب السياسية.
تنطبق هذه الملاحظة على الفترة التي ابتدأت يوم 08 جانفي 2014 تاريخ تنصيب السيد صرصار ومن معه على رأس الهيئة الموالية الجديدة وإلى يومنا هذا. حيث لم تتجرّأ الهيئة الجديدة على اسقاط أي مرشح للانتخابات الرئيسية رغم فضيحة التمويل الأجنبي لأحد المترشحين للرئاسة والتي لا يعلم أحد عنها شيئا ليومنا هذا. كما أنها لم تتجرأ على اسقاط أية قائمة في تشريعية 2014 وبلديات 2018 رغم تعدد الجرائم الانتخابية فيها.
في أكتوبر 2011 وأياما قليلة بعد الانتخابات، اتخذت الهيئة المركزية للهيئة العليا المستقلة للانتخابات قرارها التاريخي بتطبيق المرسوم عدد 35 وإسقاط عدد من قائمات العريضة الشعبية للحرية والعدالة والتنمية لمخالفتها قواعد تمويل الحملة الإنتخابية. وذلك رغم أن القانون الانتخابي لم يكن يمنح الهيئة سلطة بإسقاط قائمات والغاء نتائجها الا عند مخالفة تمويل قواعد الحملة الانتخابية ولا يمكّنها من الغاء النتائج في وضعيات أخرى كثيرة. أعادت المحكمة الإدارية بقرار ضعيف التعليل مقاعد العريضة الشعبية بعد أحداث شغب كبيرة بسيدي بوزيد.
إننا بصدد عالمين مختلفين
هيئة مستقلة وقوية خرجت في 2011 من رحم الثورة عاملت الجميع على قدم المساواة ولم تخش حتى من التعبير عن موقفها الممتعض من الفصل 15 الذي يقضي بإقصاء التجمعيين السابقين ممن تحملوا مسؤوليات في العهد السابق (يمكن الرجوع لتصريحي لقناة الجزيرة في سبتمبر 2011 حول الفصل 15 وقد أثار جدلا كثيرا) وهي طبقته رغم ذلك ورغم نقائصه واستحالة الوثوق بالقائمة التي أعدتها لجنة خاصة بهيئة تحقيق أهداف الثورة، كما التزمت وطبقت جميع القوانين بدون استثناء.
فمارست صلاحياتها وقامت بدورها التاريخي وابتكرت وافتكت صلاحيات وعدّلت الوضع السياسي بدون حسابات ضيقة وبدون خشية من أحد.
وهيئة أحدثت على أنقاض الهيئة الأولى لا شخصية لها ولا مصداقية، مخترقة من قبل الأحزاب والمنظمات الأجنبية التي تتحكم فيها. لا تحترم سيادة تونس ولا استقلالية القرار الوطني وتتعامل وفق حسابات سياسية ضيقة، لا تطبق القوانين وتخرقها وتشكو عدة خلافات داخلية مدمّرة ولا تعرف للشفافية معنى وتخضع للقويّ وتهدد المسارات الإنتخابية ومسار الانتقال الديمقراطي.
رغم كل ذلك، لا زلنا إلى يومنا هذا وبعد الدمار الشامل الذي لحق بالانتخابات وبالإدارة الانتخابية نسمع حديثا تافهاعن تجديد تركيبة الهيئة وانتخاب رئيبس لها لكي تحل مشاكلها.
حقيقة، نحن أمام طبقة سياسية غبية وتافهة ومتواطئة، يقودها توافق مسموم يبرم الصفقات المشبوهة في اختيار أعضاء الهيئات المستقلة وخاصة أعضاء هيئة الانتخابات عمود الانتقال الديمقراطي التي سلمت عمليا لعنصري حركة النهضة الحبيب خذر وبدر الدين عبد الكافي يتلاعبان به كما يشاءان. لا أستثني أحدا من النواب وقادة الأحزاب ومن يريد استثناء نفسه فعليه أن يتحرك لحماية مستقبل المسارات الانتخابية.
أقولها علنا ولا أخشى أحدا، فقد طوينا أنا وزملائي الصفحة ولا رغبة لنا بإعادة فتحها ولا نوايا لنا بالعودة لهيئة الانتخابات كما يتوهم بعض ناقصي العقل. هذه الهيئة فاشلة موضوعيا وبقطع النظر عن الأشخاص ولا يمكن حلّ معضلة هيئة الإنتخابات إلا بالتخلي عن الخداع والضحك على الذقون وتوافقات ما تحت الطاولة.
يجب إعادة النظر في القانون عدد 23 لسنة 2012 وتدعيمه بفصول كثيرة أعتبر أنها ممتازة من القانون السابق وهو المرسوم عدد 27 الذي أنشأ الهيئة ومنحها استقلاليتها في 2011 ويجب إلغاء فكرة الجهاز التنفيذي والعودة إلى فكرة الجهاز الإداري والتقني والمالي تحت سلطة هيئة مركزية قوية برئيس قوي ومحترم وبأعضاء لا يخشون أحدا.
يجب إعادة تشكيل هيئة الانتخابات على أسس صحيحة إن أردنا أن نصلح الأمور قبل انتخابات 2019 وما زال هنالك متسع من الوقت. ليس من المهم أن تجري الانتخابات في موعدها والإكتفاء بذلك، ففي العهد السابق كانت تجري كذلك في موعدها فماذا جنينا منها ؟
إذ أن المهم هو أن تكون في مستوى بلد في طريق الديمقراطية وهي حاليا ليست كذلك، إذ ليس لدينا هيئة يعول عليها ويمكن الوثوق بها وانتخاباتنا بصدد التحول للأسف إلى انتخابات شكلية في هذا الزمن الردئ.
هيئة الانتخابات هي عمود الانتقال الديمقراطي وقد أشرف العمود على التهاوي بعد تعدد الجرائم في حقه وبعد أن ضربت وتهرأت أسسه وبعد أن تحول ذلك العمود إلى خشبة مثقوبة ومخترقة ولا تخدم مصالح تونس بل أضحت تمثل خطرا على إستقرارها. إذ تبين للجميع أنها تخدم فقط مصالح من اختار أعضاءها وعناصر إدارتها وليس من مصلحة تونس أن يتواصل الأمر على هذا المنوال.
بقلم سامي بن سلامة